أخطار وأهوال محاكم التفتيش فى أسبانيا

مقال بقلم : د . مختار القاضي

كانت أدوات التعذيب في هذه المحاكم مناشير وخوازيق وآلات لكسر الأطراف وقلعها ، وعجلات لسحق المعذبين وتوابيت حديدية تطبق بالمسامير على الضحية حتى الموت ، ومهرجانات احتفالية لحرق المدانين أحياء . هذا ما كانت تفعله محاكم التفتيش الاسم الأكثر إثارة للرعب في الدولة الأندلسية . رغم ارتباط محاكم التفتيش بالأندلس إلا أن القصة الدموية لم تبدأ من هناك ، ففي القرون الوسطى كان لرجال الدين سلطات واسعة في أوروبا ، وامتد نفوذهم لدرجة أن البابا في القرن الثاني عشر أنشأ سلطة استثنائية في العالم المسيحي لردع جرائم الكفر والسحر ، ولكن من يقرر أن ذلك الشخص زنديق أو أن ذلك مشعوذ أو ساحر ؟

وضع البابا للكنيسة دليلا لاحق من خلاله كل المشكوك فيهم ، الذي قد يكون طبيبا أو كيميائيا أو فيلسوفا ، فيتم اتهامه بالسحر وتكون المحرقة مصيره . صار لمحاكم التفتيش أمر نافذ في المناطق المسيحية بأوروبا ، وتحولت إلى وسيلة أمنية قمعية تستخدمها السلطات لتحقيق أهدافها ، بل أصبحت جزء لا يتجزأ من الآلة الاستعمارية في الأمريكتين ، ولكن ظهرت في أسوأ مظاهرها بالأندلس ، وخصوصا مع تداعي ممالك المسلمين ، وقد أنشئت محاكم التفتيش لتقوية السلطة الجديدة ، وكان أول قراراتها هو طرد جميع اليهود الأندلسيين ، وفرض التحول القسري إلى المسيحية على البقية ، حيث تم تهجير ٢٠٠ ألف يهودي سنة ١٤٩٢ م .

واجه نصف مليون مسلم نظاما قضائيا غير مسبوق حينها ، فقد توجه لهم تهمة التحدث باللغة العربية ، أو غسل يوم الجمعة ، أو تناول نوع معين من الأطعمة ، ونادرا ماينتهي الأمر بالبراءة ، وحتى من ينج يظل ملاحقا بالخزي والعار بين مواطنيه ليتم إهانته في الطرقات بعد خروجه .

لم يكن التعذيب هدفا في حد ذاته ، فقد كانت محاكم التفتيش تحرق الكتب وتصادر الهوية وتهدم الذاكرة وتفني الإنسان ، ولكن يبقى السؤال : ماذا فعل الأندلسيون أمام هذا الرعب ؟ المورسكيون حينها قاوموا بذكاء من أجل الحفاظ على دينهم ، والبقاء على أرضهم ، فصارت لهم حياة مزدوجة ، فلكل شخص اسمان ولغتان وعقيدتان ، فعلنا كانوا مسيحيين يزورون الكنائس بأسماء قشتالية ، وسرا كانوا كأسلافهم سواء يهودا أو مسلمين ، لدرجة أنهم أخترعوا كتابة خاصة بهم تسمى الخميادو ، ووضعوا أنظمة فقهية خاصة تناسب أفكارهم وعقائدهم .

ألغيت محاكم التفتيش لاحقا سنة ١٨٣٤ م ، ولكن التضييق ظل مستمرا على المورسكيين حتى وفاة الجنرال الديكتاتور فرانكوا سنة ١٩٧٥ م ، حينها سعت أسبانيا إلى التصالح مع ماضيها ، فقام اليهود بتخليد الجرائم التي أرتكبت ضدهم في متحف المنسيين بغرناطة ، ووثقوا أسماء ضحاياهم ووضعوا فيها الوثائق التي تثبت ذلك ، كما عرضوا الآلات والأدوات التي استخدمت في التعذيب بالمتحف ، وكيف استطاعوا مكرهين ممارسة حياة مزدوجة .

لم تقف مساعي اليهود عند حفظ الذاكرة ، بل انتزعوا من الأسبان حق الاعتذار والتجنيس سنة ١٩٩٢ م في عهد الملك خوان كارلوس ، وتم تجنيسهم سنة ٢٠١٣ م ، ولكن ماذا عن حق المسلمين والمورسكيين ؟! يعلل البعض الموقف الأسباني المتعاطف مع اليهود دون المسلمين بأن المسلمين كانوا جزء من الصراع الدائر آنذاك ، كما اتهموا بعدم الحفاظ على صلاتهم الثقافية بالأندلس ، فضلا عن حجة أعدادهم الضخمة ، وذلك رغم أنهم تعرضوا لشتى أنواع التعذيب والتهجير القسري بطرق لا إنسانية مشهود عليها ، كما أنهم لم ينسوا ولم يقطعوا صلاتهم بالأندلس وذاكرة أجدادهم ، كذلك حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم بما فيها الموسيقى الأندلسية والفولكلور الشعبي وحتى ملابسهم المميزة ، كما راح منهم الكثير من الضحايا تعذيبا وحرقا وقتلا .

أسهم المسلمون واليهود بقدر كبير في الحضارة الأسبانية ، ولكن حتى الآن لم تنصف أسبانيا أحفاد مسلميها الذين طال التعذيب فيهم النساء والشيوخ والأطفال دون شفقة أو رحمة.

عن Gihan Elgarhy

شاهد أيضاً

تحت عنوان “Mindset to Startup” كتاب جديد لهاني نجيب يرسم طريق رحلة ريادة الأعمال الناجحة

كتب ابراهيم احمد إطلاق هاني نجيب، الرائد في ريادة الاعمال، كتاب “Mindset to Startup” ، …