حكايتي مع العسكري والصعيدي .. معلم المقهى وعاشق جنود مصر

كتب : د. مختار القاضي

مراجعة : جيهان الجارحي

عندما كنت أقضي خدمتي العسكرية بالقوات المسلحة المصرية ، وبالتحديد بالمدرسة الثانوية العسكرية للتمريض للإناث بالمعادي ، وفي اليوم الأول وجدت عسكري يخدم عادةً بتلك المدرسة ، من أبناء حي إمبابة بالقاهرة ، يعمل سائقا ويسبقني في الأقدمية بعام كامل ، وكان ابن بلد بجد ، فقد استلمت عملي بالمدرسة ، وكان موعد الغذاء قد مضى ، فقدم لي الطعام والشراب ، ورحب بي كثيرا ، وطمأنني بوجود قادة على درجة عالية من التفاهم وحسن معاملة العساكر وصف الضباط ، مما أدخل على قلبي الراحة والطمأنينة ، وخصوصًا أنها مدرسة للتمريض يقودها نخبة من الضباط السيدات الفاضلات .

 

خرجت أنا وزميلي الجندي ، خالد سعيد ، لكي أعزمه على الشاي والجاتوه ، وذلك بحي المعادي الراقي ، وبالفعل ذهبنا أنا وهو وتناولنا الجاتوه ؛ لأنني كنت أحبه كثيرا ، وتنزهنا في حي المعادي . ونحن في طريق العودة ، قررنا الجلوس على إحدى المقاهي لارتشاف الشاي والمشروبات الغازية ، وبالفعل جلسنا على مقهى صاحبه صعيدي ، حيث يجلس على كرسي ليحصّل النقود من الزبائن قبل انصرافهم من المقهى . أسرعتُ بالجلوس على المقهى وكذلك زميلي ، كان الجو جميلاً والهواء عليلا ، خصوصا ونحن في فصل الصيف ، حيث شدة الحرارة مع المجهود وتعب اليوم الشاق ، وأنا أحمل مخلتي بين يدي حتى تم توزيعي وذهابي إلى المدرسة ، واختيار زميلي خالد دولابا لي لحفظ أمتعتي ، كما أهداني قفلا بمفاتيحه لغلق الدولاب وفتحه ؛ ضمانا لتأمين ملابسي وحاجياتي الخاصة ، من معجون أسنان وفرشاة ومعجون للحلاقة وغيرها .

وبعد أن تناولنا بعض المشروبات ، ذهبتُ إلى صاحب المقهى لدفع الحساب ، مرتديا الزي الميري ، وعندما سألته عن قيمة الحساب ، فوجئتُ به يرفض تماما ، ويؤكد لي أن حسابي قد وصل ، فأشرتُ إليه بأن معي الكثير من النقود ولا داعي للمجاملة ، وليجامل من يستحق من الجنود غير القادرين دون جدوى . طلب مني صاحب القهوة الجلوس بجواره على مقعدين لي ولزميلي الجندي خالد سعيد ، فجلستُ وطلبت منه معرفة من قام بدفع الحساب لي ولزميلي ، فابتسم ونظر إليّ قائلاً : “منذ عشرين عاما كنت أخدم مثلك في القوات المسلحة ، وتعرضتُ لموقف صعب جدا” . نظرتُ إليه متسائلاً ماهو ؟ قال : كان موعد أجازتي قد حل ، واستلمتُ التصريح وارتديتُ ملابس الفسحة ، وخرجتُ من كتيبتي ، ولكن لم يكن معي أية نقود كي أسافر بها ، خصوصا وأني من الصعيد ومشوار السفر طويل ومكلّف .

 

جلستُ برهة وأنا حزين على جانب إحدى الطرق على أريكة خشبية ، وبعد دقائق جلس بجانبي رجل طيب في عمر والدي ، وتبادل معي أطراف الحديث ، وسألني عن سبب حزني ، ولكنني ترددت كثيرًا قائلا له ، إنه مجرد إرهاق عمل ولكن آثاره ظاهرة على وجهي . ألّح عليّ الرجل متسائلاً عن سبب شرودي وحزني ، فقلت له الحقيقة بعد الكثير من الإلحاح ، فطلب لي الطعام والشراب من أحد المطاعم واستحلفني بالله أن أقول له عن قيمة التذكرة لكي أسافر بسلامة الله إلى بلدتي بالصعيد ، فترددتُ طويلاً ، ولكنه استمر في الإلحاح حتى قلتُ له قيمة التذكرة ، فقام على الفور بوضع مبلغ من المال في جيب سترتي ، وهرع وكأنه لم يكن موجودا ، وتلفتُ يمينا ويسارا لكي أشكره ، ولكنه لم يمهلني حتى تقديم واجب الشكر له خشية إحراجي .

تطلعتُ في جيبي فوجدته قد وضع فيه قيمة تذكرتين وأكثر فتعجبت وقلت في نفسي ، لسة الدنيا فيها خير ، وجريت مهرولاً لكي أستقل الأتوبيس إلى ميدان رمسيس ؛ حتى أستقل القطار إلى بلدتي أسيوط ، وبالفعل اشتريت التذكرة وركبت القطار ، وقد أقسمتُ بالله العلي العظيم أن لو أعطاني ربي وأصبحت غنيا ، فسأفعل ما أستطيع لأي جندي أقابله من القوات المسلحة المصرية . دارت الأيام وأنهيتُ خدمتي العسكرية ، ثم ذهبت لبلدتي كي أعمل هناك ، ولكن دون جدوى ، فعدت أدراجي إلى القاهرة بحي المعادي الذي كنت قد تعرفت فيه على أحد أصحاب الأبراج السكنية ، فذهبتُ إليه وطلبت منه أن يبحث لي عن عمل ، فقال إن بواب العمارة قد ترك العمل منذ يومين ، وإنني يمكن أن أعمل مكانه .

استلمتُ العمل ومرت سنوات ، وأنا أضع القرش على القرش والجنيه على الجنيه ؛ حتى أتمكن من الزواج ، وبالفعل تزوجت وكانت العروس قدم السعد عليّ . كنت أذهب إلى السوق وأشتري لسكان العمارة حاجياتهم ، وأتقاضى منهم البقشيش ، كنوع من تقدير تعب مشاويري صباحا ومساءً لخدمتهم . بعد عدة سنوات تمكنت من شراء قطعة أرض ، وكانت وقتها أرض المعادي رخيصة الثمن ، ثم لجأتُ إلى مقاول من بلدياتي لبنائها برج سكني مكون من ١٤ دورا ، ولكن بالتقسيط ، فوافق على الفور بعد أن أخذ عليّ كافة الضمانات ، وأهمها كلمة الشرف ، وعند الانتهاء من بناء البرج وتشطيب الشقق ، قمت بطرحها للبيع بسعر أقل من السوق بقليل ، فتهافت عليّ المشترون حتى بيعت كافة الشقق ،وتبقى معي مبلغ كبير دفعت منه ما تبقى من حساب المقاول ، ثم قمت بشراء قطعة أرض أخرى ، وقام المقاول ببنائها ليتكرر نفس الموقف ، وأنا الآن أمتلك هذين البرجين الكبيرين ، وأشار إليهما بيده ، فنظرتُ إليهما متعجبا من فخامتهما .

 

حدثني بعد ذلك بأنه اشترى ذلك المقهى الذي نجلس عليه ، وقرر ألا يحاسب أي جندي يجلس لتناول أية مشروبات على المقهى مهما بلغت قيمتها ، وكان ذلك عهده مع الله عندما كان فقيرا  فنظرتُ إليه بإعجاب شديد قائلا في نفسي هذه فعلا أخلاق الصعايدة وأولاد البلد ممن يحبون جيشهم ، ويقدرون تضحياتهم في سبيل الحفاظ على الحدود ، وأن يعيش هذا الشعب في أمان وسلام ، وتوفير الأمن والأمان لمصرنا الغالية . سلمتُ على صاحب المقهى وشكرته جزيلا ، وذهبت إلى وحدتي العسكرية مسرورا ومقبلا على الحياة ، ولكنني قررتُ ألا أجلس على هذا المقهى مرة أخرى ؛ لأن معي مصاريفي وأكثر ، تاركا لغيري التعلم من هذا الرجل قيم الكفاح والكرم وحب الغير والعطاء بلا مقابل ، والاعتماد على الذات .

فأين ذلك مما تداولته مواقع التواصل الاجتماعي عن الكمساري والجندي والسيدة الكريمة التي دفعت قيمة التذكرة للجندي ، مما ذكرني بهذا الموقف لأقصه على قراء مقالاتي الأعزاء ؟! لقد كانت روح أكتوبر التي جعلتنا نحب الجيش المصري وكل جندي خاض تلك المعركة ، فأين هذه الروح مما فعله الكمساري ومفتش القطار مع الجندي ؟!.

Related Posts

الأربعاء… ليلة أدبية تفاعلية بنكهة “إسبانية .. نرويجية… تشيكية” في قلب القاهرة

كتب ابراهيم احمد ينظم معهد ثربانتس بالقاهرة (المركز الثقافي الإسباني)، أمسية أدبية تفاعلية مجانية للترويج لأعمال الأدب الأوروبي المعاصر. وذلك في تمام السابعة مساء الأربعاء 20 نوفمبر الجاري، بمقر أكسس…

وفد مصري يشارك في حوار معمق حول التعليم العابر للحدود بدعوة من المجلس الثقافي البريطاني

كتب ابراهيم احمد شارك وفد من مصر مؤخراً في فعالية الحوار المعمق حول التعليم العابر للحدود، التي نظمها المجلس الثقافي البريطاني في مانشستر، المملكة المتحدة، في الفترة من 12 إلى…

You Missed

OPPO تُطلق سلسلة OPPO Find X8 مع نظام ColorOS 15 عالميًا

OPPO تُطلق سلسلة OPPO Find X8 مع نظام ColorOS 15 عالميًا

الحاج محمدي كمال ونجله الكاتب الصحفي محمود يهنئان كابتن محمد سيد بفوزه بعضوية مجلس اتحاد الجودو

الحاج محمدي كمال ونجله الكاتب الصحفي محمود يهنئان كابتن محمد سيد بفوزه بعضوية مجلس اتحاد الجودو

الإعلامية عائشة الرشيد : الثالوث النووي الأمريكي والصيني

الإعلامية عائشة الرشيد : الثالوث النووي الأمريكي والصيني

الإعلامية عائشة الرشيد : الدين العام الأمريكي يصل لمستوى غير مسبوق

الإعلامية عائشة الرشيد : الدين العام الأمريكي يصل لمستوى غير مسبوق

الإعلامية عائشة الرشيد : الصاروخ الروسي يدمر أوروبا في دقائق معدودة

الإعلامية عائشة الرشيد : الصاروخ الروسي يدمر أوروبا في دقائق معدودة

الإعلامية عائشة الرشيد : المعلومات الأمنية يجب أخذها من مصادرها الرسمية

الإعلامية عائشة الرشيد : المعلومات الأمنية يجب أخذها من مصادرها الرسمية