حوار مع كبير الأثريين .. الدكتور مختار القاضي والعصر الماسي لقطاع الآثار

كتبت : جيهان الجارحي

في حوار تليفزيوني ، أجرته الإعلامية المتألقة / دعاء حجاب ، مع العالِم الأثري الكبير الدكتور / مختار القاضي ، مدير عام التخطيط والمتابعة لترميم آثار شمال ووسط سيناء ومدن القناة ، على القناة الثالثة التليفزيونية ، برنامج “العاصمة والناس” الذي أعدته كبير المُعدِّين الأستاذة / منى فاروق .

استهلَّت الأستاذة دعاء الحوار بالحديث عن مجموعة الافتتاحات الكبيرة والهامة التي تمت يوم 31 أكتوبر الماضي ، من افتتاح متحف كفر الشيخ وشرم الشيخ ، بعد ترميم مُتحف المركبات الملكية الذي تم افتتاحه في القاهرة عبر تقنية “الفيديو كونفرانس” ، حيث بلغت تكلفة تلك المتاحف التي تم افتتاحها يوم الحادي والثلاثين من الشهر المُنصرم ، مليار جنيه مصري ، وهو ما يعادل 64 مليون دولار . أضافت الأستاذة دعاء ، أننا في عصر إنشاء متاحف جديدة ، وترميم متاحف موجودة بالفعل ، مع التوسع في بعثات التنقيب والبحث عن الآثار بأيادي مصرية 100 % ، حتى وصلت النجاحات إلى حد المعجزات كما يسميها بعض المتابعين .
وعن سؤال وجهته الإعلامية المتألقة إلى الدكتور مختار القاضي : لماذا نحن في العصر الذهبي للآثار ؟ وما الفرق بين أثر موجود في مخزن أو في منطقة أثرية وآخر موجود في مُتحف ؟

الدكتور القاضي : في الحقيقة ، أرى أننا نعيش العصر الماسي للآثار وليس العصر الذهبي ؛ نظرا للكم الهائل من الحفاير والاكتشافات التي شهدها قطاع الآثار في الفترة الأخيرة ، بدءًا من تل العساسيف بالأقصر التي خرج منها 30 تابوت على درجة عالية من الجودة ، تصلح جميعها للعرض المُتحفي ، ثم اكتشاف مجموعة من الحيوانات المُحنَّطة في منطقة سقارة ، والتي تعود للعصر الفرعوني .. ومن الجميل أن أغتنم هذه الفرصة لأتوجه بخالص الشكر والتقدير إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي ، الذي أتاح الفرصة للأثريين لإثبات وجودهم ، وعلى ما قام به من توفير كافة الإمكانيات المطلوبة لإنشاء هذه المتاحف الجديدة ، برعاية الدكتور خالد العناني وزير السياحة والآثار ، والدكتور مصطفى وزيري الأمين العام ، اللذيْن كانا بحق على قدر المسئولية وقاما بجهودٍ عظيمة ، هذا بالإضافة إلى فريق الخبراء ، والاستشاريين والمهندسين ، وأخصائيي الترميم ، وحتى العمالة الذين وصل عددهم إلى نحو 5000 عامل .
إن افتتاح تلك المتاحف الجديدة والاكتشافات الأثرية تُعد بمثابة هدايا للعالم بأسره ، فالحضارة المصرية ليست مصرية فقط ، بل هي تراث عالمي إنساني يصلح لكافة العصور .
واستطرد القاضي : إن مُتحف شرم الشيخ عظيم للغاية ، بُني على مساحة شاسعة ، وهناك تكنولوجيا عالية تم توفيرها من ناحية الإنشاء ، وترميم الأثر ، وكذلك تأمين المعروضات ضد السرقة والنهب .

وعن سؤال آخر طرحته الإعلامية دعاء حجاب : هل الهدف من وجود المُتحف هو العائد القومي فقط ؟
أجاب القاضي : إن الهدف من المُتحف الحفاظ على الأثر ، فالأثر الموجود في المخزن لا يعلم أحد عنه شيئا سوى الأثري المتخصص ، بالإضافة إلى عدم توفير البيئة المناسبة للحفاظ عليه أكبر فترة ممكنة لتقديمه بصورة جيدة للأجيال القادمة . أما الأثر الموجود في المتحف تتوفر له الظروف المواتية ليعيش قرونا من الزمان ؛ وذلك بسبب عوامل الترميم والصيانة الدورية التي تُجرى له ، بالإضافة إلى كونه مُسجَّل برقم معين ومواصفات خاصة ، بحيث يمكن استرداده لو تمت سرقته ، فهناك أثر مُسجل وآخر غير مُسجل ، وهناك حفر خِلسة يقوم به بعض لصوص الآثار .

واستأنف العالِم الأثري حديثه قائلا : إن أعظم حضارة في العالم تركت تراثا عظيما هي الحضارة المصرية ، بدءًا من عصور ما قبل التاريخ ، فالعصر الفرعوني ، فالعصر اليوناني الروماني ، فالعصريْن الإسلامي والقبطي ، ثم العصر الحديث .
إن مصر بها تراث حضاري ليس موجودًا في العالم كله ، حيث تضم وحدها ثلثي (2/3 ) آثار العالم .
وأضاف العالِم الأثري : إن الأثر الموجود خارج المُتحف لا تتوفر له السلامة ولا الأمن والأمان ، فهو مُعرَّض للسرقة والنهب والتلف ، ولو تمت سرقته ، ربما لا يمكننا استرجاعه ، إلا إذا كانت هناك اتفاقيات دولية تنص على ذلك ، ففي هذه الحالة يمكن استرجاعه عن طريق ” إدارة الآثار المُسترَدة” ، والتي تمكنت من استرداد العديد من الآثار من دولة إسرائيل بعد الحرب ، وكذلك من بعض الدول الكبرى ، مثل التمثال الذي تم استرداده من متحف “المتروبوليتان” بأمريكا ، وهو عبارة عن مومياء ملكية داخل تابوت ، تم استرجاعها بعد اتضاح أن جميع الوثائق التي خرجت بها كانت مُزوَّرة ، مع اعتذار رسمي للدولة المصرية .. أما الأثر الموجود داخل المُتحف لو تمت سرقته ، فإننا يمكننا استرداده ؛ لأنه مُسجَّل برقم معين ، وله مقاسات وخامة معينة صُنع منها ، وتوصيف معين للعصر الذي ينتمي إليه .

دعاء حجاب : مُتحف شرم الشيخ يضم مجموعة من الآثار ، مثل الجعران والأسد ، وماذا أيضا ؟
دكتور مختار : منطقة شرم الشيخ تُعد سياحة شاطئية وسياحة الغطس ، بالإضافة إلى المُتحف كسياحة ثقافية . مُتحف شرم الشيخ يضم 2000 قطعة أثرية ، تنتمي جميعها للعصر الفرعوني ، وبه ثلاث قاعات تحكي قصة الحضارة الفرعونية ، وبها الجعران المحنط والأسد المُحنَّط ، وهو شيء فريد في الحضارة المصرية ، فلا يوجد أسد محنط أو جعران محنط سوى في منطقة سقارة ، حيث تم عرضها كقطع فريدة نادرة .. إن الحضارة المصرية حضارة عظيمة ، وتراثها فاق الحدود ، تحمل الكثير من الغرائب والأسرار ، وعندما يزور السائح الأجنبي الأماكن الأثرية الأخرى جرَّاء حب الاستطلاع ، فإنه يحقق عائدا يضاف للموازنة العامة للدولة .

وفيما يخص متحف كفر الشيخ ، سألت الأستاذة دعاء حجاب الدكتور والعالِم الأثري : ما هو السيناريو المُتحفي لمُتحف كفر الشيخ ؟
الدكتور مختار القاضي : إن مُتحف الغردقة يضم آثار مصرية فقط “العصر الفرعوني” ، والمتحف الكبير يحكي قصة الحضارة المصرية وبعضا من الحضارة اليونانية الرومانية ، أما متحف كفر الشيخ فيضم المزيج الحضاري المصري كله ، حيث يضم مجموعة من عصور ما قبل التاريخ ، والعصر الفرعوني ، وكذلك العصر اليوناني الروماني ، وبه من العصريْن القبطي والإسلامي ، حيث يحوي 1200 قطعة أثرية تنتمي لكافة العصور ، فضلا عن كونه يضم قطع أثرية من العصر الحديث ، حيث يحتوي على لوحات فنية من عصر “محمد علي” تحوي صورا لبعض الأميرات .. باختصار شديد ، متحف كفر الشيخ يحكي ويقص الحضارة المصرية بأسرها .

الإعلامية المتألقة دعاء حجاب : ما هو سيناريو العرض المتحفي ؟
دكتور مختار القاضي : هو طريقة ترتيب الآثار في القصة التي يحكيها الأثر ، يعني الشيء الذي يربط جميع هذه الآثار ببعضها البعض .. هل هو كتاب الموتى ؟ هل هو الحساب والعقاب ؟ هل هو فن التحنيط ؟
سيناريو العرض المتحفي في مُتحف كفر الشيخ يحكي القصة الأزلية للصراع بين “حورس” إله الخير ، وإله الشر “ست” ، والتي انتصر فيها الإله حورس وصار ملكا لمصر وكبير الآلهة .

انتقلت الإعلامية دعاء إلى سؤال عن متحف المركبات الملكية ، الذي تم ترميمه ، ثم توقف العمل به عام 2011 ، ثم أُعيد افتتاحه من جديد

الدكتور القاضي : مُتحف المركبات الملكية يضم المركبات التي كان يستخدمها الملك أو حاكم مصر ، وخصوصا المركبة التي أهدتها الأمبراطورة “أوجيني” ملكة النمسا ، إلى الخديوي إسماعيل ، عندما زارت مصر لحضور حفل افتتاح قناة السويس .
واستأنف القاضي بأن متحف المركبات الملكية والآثار التي بداخله كانوا بحاجة إلى ترميم ، وليس كل ما بداخله عبارة عن مركبات ملكية ، بل يضم كذلك لوحات زيتية ، كما أن به أثاث كان يستخدمه الخديوي إسماعيل في حياته اليومية ، وكذلك به مركبات للتنسيق بين السفراء ، أو التي يذهب بواسطتها إلى البرلمان ، أو تلك التي كان يتنزه بها مع زوجته . وأضاف سيادته أن متحف المركبات الملكية موجود في القلعة بالفسطاط .

دعاء حجاب : مُتحف الحضارة الموجود في منطقة الفسطاط ، به تكنولوجيا متقدمة لتعقيم وتطهير الآثار العضوية .. ما معنى الأثر العضوي ؟
دكتور مختار القاضي : هناك آثار عضوية وأخرى غير عضوية ، وآثار منقولة وأخرى غير منقولة .. الأثر العضوي هو ذلك الأثر الذي يعود إلى كائنات نباتية أو حيوانية أو بشرية ، مثل العاج ، العظم ، الخشب ، الجلد ، المخطوطات .. أما غير العضوية مثل الأحجار والمعادن ، وكل مادة منهم لها طريقة حفظ معينة .. ويجدر بي التنويه إلى نقطة هامة ، ألا وهي
أن متحف الحضارة والمتاحف الجديدة أصبحت مراكز علمية وبحثية هامة جدا للحفاظ على الآثار ، بكل السبل وبأحدث الطرق العلمية ، فهي ليست مجرد متاحف للزيارة تحافظ على الأثر ، وتوفر له البيئة المناسبة ليعيش آلاف السنين بحالة جيدة .. وأضاف القاضي أن متحف الحضارة به جهاز تعقيم توضع به 8 توابيت ، يتم تعقيمها ضد البكتيريا والفطريات والحشرات ، بحيث تخرج أي مادة عضوية من الجهاز على درجة عالية من النقاء ، ليس بها أية تلفيات ، ولو حدثت يمكن معالجتها ..

أردف القاضي حديثه ، بأن هناك وحدات من جهاز التعقيم مثل الكيس النايلون أو البالونة ، تسمح بدخول الأثر صغير الحجم ، حيث يتم سحب غاز الأكسوجين منه واستبداله بغاز النيتروجين ، الذي لا تعيش معه أية كائنات حية ، فيتم بذلك قتل جميع الفطريات والبكتيريا ، ونضمن سلامة الأثر وعدم تعرضه لأية تلفيات .. الجدير بالذكر أن هذه الأجهزة مستوردة من الخارج وتوجد في متحف الحضارة فقط .

دعاء حجاب : مدارس الآثار المصرية .. ماذا أنجبت لنا وماذا أضافت عن الأجانب ؟
الدكتور القاضي : لقد حدثت تغيرات في علم الآثار خلال ال50 سنة الأخيرة ، وعلى الرغم من أننا نمتلك الحضارة المصرية ، إلا أن علم الآثار كان مستورد ، حيث كنا لا نقوم بالتنقيب عن الآثار ، أو نشترك في أعمال الحفاير ، وعلى مدار 2000 سنة من الاحتلال حدثت سرقة لكثير من الآثار ، ولم يكن هناك قانون للآثار تم سنه إلا عام 1983 ، وقبل هذا العام كانت تجارة الآثار مشروعة ، حيث تمكن نابليون بونابرت من نهب 19 سفينة مُحمَّلة بالآثار .
إن البعثات الأجنبية كانت تعمل ، وكان من حقها الاستيلاء على نسبة معينة من الحفاير من الآثار المكررة ، ولكن خلال ال 50 سنة الأخيرة ، حدثت طفرة في قطاع الآثار ، واشترك المصريون أنفسهم في أعمال الحفر والتنقيب ؛ جرّاء حب الناس للآثار وميولهم الوطنية .

دعاء حجاب : حدِّثنا عن المتحف الكبير ؟
الدكتور القاضي : المتحف المصري حدوتة كبيرة ، تفوق أية قصة ، وهو يقتصر على الحضارة المصرية فقط ، وبه أماكن للمعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة ، يحوي مكتبة كبيرة ، وشاشة عرض سينمائي ثلاثية الأبعاد تحكي تاريخ بناء المتحف ، كما يحتوي على قاعة مؤتمرات كبرى ، وبه عرض متحفي خاص بالأطفال ، وهناك درج عظيم معروض عليه قطع أثرية ثقيلة الوزن ، تتحدث عن عظماء الملوك المصريين
الجدير بالذكر ، أن المتحف يواكب بانوراما الهرم ، حيث أن بينه وبين الهرم 2 كيلو فقط ، فكان لابد من تطهير منطقة الهرم ؛ ليتم تمهيد الطريق ، وعمل نفق أسفل طريق القاهرة – الفيوم ، مع وجود عربات لنقل السياح المصريين والأجانب ، بحيث يتم جذب 50 مليون زائر سنويا .

دعاء حجاب : كم يوما وكم ساعة يحتاج المتحف الكبير لزيارته لكي نعي ونفهم ؟
دكتور مختار : من أراد أن يفهم بحاجة إلى أسبوع .. سيجد الزائر عند كل أثر نشرة مُسجل عليها البيانات الخاصة بهذا الأثر ، بسبع لغات مختلفة ؛ ليتسنى لأكبر عدد من السياح الأجانب فهم كل شيء عن الآثار التي يحويها المتحف ..
المتحف مجهَّز بأفضل التجهيزات ، وبه تكييف مركزي ، و17 معملا للحفاظ على الآثار .. لقد أعاد المصريون تركيب بعض القطع الأثرية بطريقة أفضل من الأجانب ، حيث اكتشفوا عددا من الأخطاء في تجميع الآثار الخاصة بالملك توت عنخ آمون ، فتم إعادة تركيبها كالمصري القديم تماما ، مستخدمين في ذلك تكنولوجيا حديثة عالية الدقة .

دعاء حجاب : كلمة أخيرة دكتور مختار عن العصر الماسي لقطاع الآثار ؟
الدكتور القاضي : أتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى جميع التخصصات الموجودة في قطاع الآثار ، على جهودهم المضنية التي قاموا بها ، من حفاير على أحدث الطرق العلمية ، أو توثيق تسجيل أو عمليات ترميم ، والتي أثنى عليها الدكتور خالد العناني وزير السياحة والآثار أكثر من مرة ؛ لأنهم يقومون بمعالجة الآثار لتقديمها للأجيال القادمة في أحسن حال ، فالأثر قيمة فنية وحضارية على درجة عالية من الجمال ، وهو يمثل تاريخ أجدادنا .. إن عِلم المصريات صار عِلم مصري بحت ، أخرج لنا عباقرة في جميع التخصصات .