أسرار “سومرست موم” .. الكاتب العالمي الذي تحول إلى جاسوس لبريطانيا

بقلم : د.مختار القاضي

مراجعة : جيهان الجارحي

كان “سومرست موم” كاتبا عالميا معروفا ، وقد تم تجنيده من جانب بريطانيا للتجسس على روسيا بمباركة أمريكية ، وذلك قبل اندلاع الثورة البلشفية إبان عهد لينين وستالين في روسيا . وافق “سومرست موم” على العمل كجاسوس واستهوته الفكرة ، وسافر بالفعل إلى روسيا مرتديا زيّا أرستقراطيا ، وممسكا عصاه ذات المقبض العاجي . كان شكل الكاتب “سومرست موم” غريبا وسط المجتمع الروسي ، ولم يكن يرتدي مثلهم أو يجاريهم في أعمالهم وتصرفاتهم الحياتية ، فاستغربه الروس لفترة ، ولكن سرعان ما اعتادوا على مظهره المختلف نوعا ما عنهم ، حيث كانوا فقراء يعانون شظف العيش .
ظل الكاتب العالمي “سومرست موم” يجول في روسيا ، ويرسل إلى المخابرات البريطانية كل ما يتوفر لديه من معلومات ، سواءً عسكرية أو اقتصادية أو اجتماعية ، وغيرها من المعلومات شديدة الأهمية .

 

قامت الثورة البلشفية ، وكاد أمر “سومرست موم” يفتضح ، ففر هاربا عبر مركب عن طريق البحر ، وقبل أن يصل إلى السفينة تعطلت المركب ، فاضطر للسباحة حتى وصل إلى السفينة البريطانية التي تم إعدادها خصيصا له ؛ بسبب ما تمكن من جمعه من معلومات عن روسيا غاية في الأهمية . ألغى النظام البلشفي الأكل في البيوت ، فكان يتم عمل مآدب كبيرة في الشوارع يتناوب عليها أفراد الشعب تناول الطعام بالتساوي ، والذي كان غاية في القلة وعدم الكفاية ، حيث كان يتكون من حساء وخبز وقطعة صغيرة من اللحم ، كما كان النظام الشيوعي يسعى إلى السيطرة على الشعب باسم الاشتراكية ، في حين كانت قيادات الثورة تعيش حياة البذخ والترف دون مبالاة بالفقراء من عامة الشعب .

ادَّعى “سومرست موم” أنه جاء ليؤرخ للثورة البلشفية ، وأنه يحتاج إلى الكثير من المعلومات لاستكمال كتابه . وبالفعل كان يجمع المعلومات بشكل علني ، وتعامل معه الجميع على هذا الأساس ، وذلك قبل أن يتم كشف أمره ثم فراره من روسيا . كان الكاتب العالمي “سومرست موم” شاذ جنسيا ، فكان يمارس الشذوذ مع البحارة والشباب مفتولي العضلات ، وذلك على عكس أي جاسوس آخر لا يمكن أن يقوم بمثل هذه الأعمال المُخِّلة .

الغريب أن “سومرست موم” خاطب المخابرات البريطانية بضرورة توفير الإمكانيات اللازمة لروسيا قبل قيام الثورة ، التي قد تأتي على الأخضر واليابس في روسيا وتدمرها تماما ، كما كان متعاطفا مع الشعب الروسي الفقير ، وخصوصًا بعد أن تم تجويعه وانعدمت قدرته في الحصول على قوت يومه ، مما كان ينذر بثورة دموية ، طبقا للتقارير التي كان يرسلها الجاسوس البريطاني “سومرست موم” .
نجحت الثورة الروسية ، وأصبح البلاشفة على قمة السلطة ، وانهارت حكومة كرنست تماما ، وأدركت قوات الحلفاء أن الأمور قد انتهت ، كما أعلنت الحكومة الجديدة رفضها التام للحرب ، وقررت عمل صلح مع ألمانيا .

انتهت مأمورية “سومرست موم” في روسيا ، وكانت عملية انسحابه تعتبر من أهم العمليات المخابراتية التي تحدث في حالة انسحاب الجواسيس عقب انتهاء مهمتهم المكلفين بها . انتهاء مهمة أي جاسوس وعودته إلى الجهة التي يعمل معها ، لا يعني انتهاء عمله ، ولكن على العكس ، ربما يمكنه الإدلاء بمعلومات قد تبدو بسيطة ، ولكنها خطيرة وهامة ، كما يمكنه أن يدلي بمعلومات عن معايشته للواقع المختلف الذي كان يتواجد فيه ، وطريقة تعامله مع مَن حوله ، وكيف استطاع أن ينجح في جمع المعلومات دون افتضاح أمره ؛ وذلك لخدمة ومساعدة من سيأتي بعده من جواسيس .

 

الأهم من ذلك ، أن تهريب الجاسوس ومساعدته على العودة سالما ، تشجع مَن يأتي بعده على ممارسة نفس المهام ، كما تزرع الثقة بقلوب الجواسيس في أن الدولة التي يعمل الجاسوس لصالحها ، سوف تقف معه وتنقذه وقت اللزوم . أُصيب “سومرست موم” بالالتهاب الرئوي عقب عودته إلى سويسرا ، كما فقد الكثير من وزنه ، وأصيب بالضعف العام والتوتر الشديد ؛ جراء الأحداث التي تعرض لها حتى يصل إلى المدمرة الحربية البريطانية ، التي تم إرسالها خصيصا له لانتشاله من البحر وتهريبه إلى سويسرا .
عاش “سومرست موم” فترة من حياته خائفا من انتقام الروس منه لو اكتشفوا أمره ، وبالتالي يتعرض للقتل .

حاولت أمريكا القضاء على الثورة البلشفية ، فأرسلت مع حلفائها جيشا مكونا من ثلاثة عشر ألف جندي في مغامرة غير محسوبة تهدف إلى عودة الحكومة القديمة ، ولكنها فشلت وانهزمت وراح من قواتها الكثير من الضحايا بين قتلى وجرحى بالآلاف ، الأمر الذي أدى إلى الكراهية الشديدة بين الروس والأمريكان ، أو النظاميْن الشيوعي والرأسمالي ، كما أصبح الأمريكان من يومها هم العدو الأول للشعب الروسي ، ولم ينتهِ هذا العداء رغم سقوط الاتحاد السوفيتي أوائل التسعينيات .
تخطى “سومرست موم” ، أوائل الخمسينيات ، كل القواعد المخابراتية المعروفة ، وقرر بكل تحدي إصدار كتاب عن عمله كجاسوس بعنوان “كنت جاسوسا” ، وهو كتابه الأشهر الذي يتم تداوله حتى الآن ، فألقى بكتابه هذا قنبلة مدوية في الأوساط الأدبية والسياسية.

أنكرت روسيا ما قاله “سومرست موم” في كتابه ، وادّعت عدم دخوله إلى روسيا مطلقا ، رغم الوثائق التي قدمها في كتابه ، وروَّج لها الإعلام الروسي ، الذي يعتبر إعلاما مُوجها من الحكومة ، كما تجاهلت القوات الأمريكية الكتاب تماما ، ولم تعلق بأي شيء عما تم سرده فيه من أحداث مثيرة ، كذلك تصرفت القوات البريطانية نفس تصرف أمريكا ، من مُنطلق أن إهمال أية فكرة هو تجاهلها  .

 

نال الكتاب شهرة كبيرة ، وتم توزيعه في العديد من الدول ، وحقق أرقاما قياسية في حجم المبيعات ، كما كان على قمة الكتب التي تم توزيعها في العالم بأسره .
كعادة المشاهير ، انتهت حياة “سومرست موم” بكتابات هزلية بذيئة ومثيرة صدمت مشاعر القراء ، ففقد شعبيته واهتمام القراء به ، ولكن يظل كتابه “كنت جاسوسا” من أشهر الكتب العالمية التي قام بتأليفها حتى الآن .

Related Posts

الأربعاء… ليلة أدبية تفاعلية بنكهة “إسبانية .. نرويجية… تشيكية” في قلب القاهرة

كتب ابراهيم احمد ينظم معهد ثربانتس بالقاهرة (المركز الثقافي الإسباني)، أمسية أدبية تفاعلية مجانية للترويج لأعمال الأدب الأوروبي المعاصر. وذلك في تمام السابعة مساء الأربعاء 20 نوفمبر الجاري، بمقر أكسس…

وفد مصري يشارك في حوار معمق حول التعليم العابر للحدود بدعوة من المجلس الثقافي البريطاني

كتب ابراهيم احمد شارك وفد من مصر مؤخراً في فعالية الحوار المعمق حول التعليم العابر للحدود، التي نظمها المجلس الثقافي البريطاني في مانشستر، المملكة المتحدة، في الفترة من 12 إلى…

You Missed

الربان وسام هركي :  إنقلب السحر علي الساحر

الربان وسام هركي :  إنقلب السحر علي الساحر

الي من يهمه الأمر..  تقاعس حي السلام في تنفيذ قرارات ازاله مخالفة

الي من يهمه الأمر..  تقاعس حي السلام في تنفيذ قرارات ازاله مخالفة

الشيخ سلطان بن خليفة بن شخبوط يكرم مجموعة يلا خلال فعاليات مؤتمر المطورين في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا 2024

الشيخ سلطان بن خليفة بن شخبوط يكرم مجموعة يلا خلال فعاليات مؤتمر المطورين في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا 2024

الإعلامية عائشة الرشيد : الرئيس الامريكي دونالد ترامب شعاره إسرائيل قبل كل شيء

الإعلامية عائشة الرشيد : الرئيس الامريكي دونالد ترامب شعاره إسرائيل قبل كل شيء

الإعلامية عائشة الرشيد : إنتقام ألمانيا وفرنسا من روسيا

الإعلامية عائشة الرشيد : إنتقام ألمانيا وفرنسا من روسيا

الإعلامية عائشة الرشيد : الإمارات دولة رائدة في الذكاء الاصطناعي

الإعلامية عائشة الرشيد : الإمارات دولة رائدة في الذكاء الاصطناعي