كتبت : جيهان الجارحي
الهجرة النبوية حدث تاريخي وذكرى عظيمة لها مكانتها عند المسلمين والعالم الإسلامي بأسره . المقصود بالهجرة ، هي هجرة النبي محمد وأصحابه من مكة إلى يثرب ، والتي سميت بعد ذلك بالمدينة المنورة .
إن للهجرة أسبابا عديدة ، منها معاناة المسلمين وما كانوا يلاقونه من أذى وتعذيب زعماء قريش ، في محاولة يائسة منهم لصد النبي عن دعوته الشريفة ، وردع المسلمين عن الدخول في ذلك الدين الجديد الذي يهدد مكانتهم ، ويجعل الخلق سواسية أمام الله سبحانه ، ويساويهم بالعبيد .
كانت الهجرة النبوية في العام ال14 للبعثة ، الموافق 622 م .
ولعلنا نتساءل : لماذا يؤرخ العالم الإسلامي كله بهجرة النبي الكريم من مكة إلى المدينة ، وما هو سبب اختيار هذا الحدث العظيم الجلل مبدأ للتاريخ الإسلامي ؟!
السر في اختيار هذا الحدث العظيم مبدأ للتاريخ الإسلامي ، أنه مبدأ نصر الله لرسوله الكريم على الذين حاربوا دعوته في البلد الحرام ، ثم مكروا به ليقتلوه .
قال تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . صدق الله العظيم .
هناك أسباب عديدة للهجرة النبوية ؛ فقد تعرض العديد من المسلمين لألوان من التعذيب الجسدي في سبيل نصرة دين الله عز وجل ، فعذب بلال بن رباح – رضي الله عنه – وألقي به في الصحراء تحت لفح الحر ولهيب الشمس ، كما عذب آل ياسر – رضي الله عنهم – فوعدهم رسول الله بالجنة بقوله : “صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة” .
من دوافع الهجرة كذلك ، الحصار الظالم الذي فرضته قريش على المسلمين ، وبخاصة بنو هاشم ، حيث تآمرت قريش على مقاطعة المسلمين وحصارهم اقتصاديا واجتماعيا ، حتى وصل الحال بالمسلمين إلى أكل ورق الشجر من شدة الجوع ، ثم اتفق رجال من قريش على إنهاء مقاطعة ذوي الأرحام من أبناء عمومتهم من بني هاشم ، وعندما رجعوا إلى الصحيفة التي كتبت عليها بنود المقاطعة ، وجدوها وقد أكلتها حشرة الأرضة ، إلا لفظ الجلالة”باسمك اللهم ” .
هناك أسباب أخرى متعلقة بنشر الدعوة الإسلامية ، فعندما دعا النبي الكريم أهل مكة إلى الإسلام ، متبعا منهج الحكمة والموعظة الحسنة ، لم يتقبل أغلب أهل مكة تلك الدعوة ، فدعا النبي إلى البحث عن مكان آخر لنشر دعوته المقدسة ، وخاصة حين التقى في موسم الحج بجماعة من قبيلة الخزرج التي تقطن المدينة المنورة ، ودعاهم إلى الإسلام ولقى منهم قبولا .
من أبرز دوافع الهجرة ، الحاجة لتكوين دولة إسلامية عالمية ، والتي لا يمكن أن تتحقق في مكة ، حيث النطاق الضيق ، والافتقاد إلى الأمن والأمان ، فكان لابد من تأسيس دولة إسلامية وكيان اجتماعي تحت مظلة نظام سياسي ، في مناخ آمن يكفل للدعوة الإسلامية الحق في الانتشار ؛ لتتحقق بذلك عالمية الإسلام المتمثلة في قوله تعالى : ” وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون” صدق الله العظيم .
لم يكن الأمر بالهين على رسول الله ، فعند خروجه من مكة المكرمة ، تحركت لديه عاطفة الحنين إلى الوطن ؛ نظرا لمكانة مكة عنده ، ووجود البيت الحرام فيها ، فقال عند خروجه مودعا إياها :” ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك” .
خرج الرسول الكريم للهجرة وعمره 53 عاما ، وعندما أذن الله تعالى له بالهجرة ، ذهب إلى أبي بكر ليخبره بذلك ، وكان أبو بكر – رضي الله عنه – قد أعد ناقتين للسفر ، واستأجر عبد الله بن أريقط دليلا لهما في الطريق إلى المدينة المنورة ، فأعطاه أبو بكر الناقتين ، واتفقوا على اللقاء عند غار ثور بعد ثلاث ليال ، ثم أمر رسول الله علي بن أبي طالب بالبقاء في مكة ليرد الأمانات إلى أصحابها .
بعد الدخول إلى غار ثور الذي يأوي النبي الكريم وصاحبه أبا بكر ، شعر أبو بكر بالخوف على رسول الله عندما وصل كفار قريش إلى باب الغار ، فقال للنبي الكريم : ” يا رسول الله ، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا ” ، فقال له النبي :” يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟” .
هناك نتائج عظيمة ترتبت على الهجرة النبوية ، منها إقامة دعائم الدولة الإسلامية ، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، وإبرام عهد مع اليهود ، حيث عقد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وثيقة مع اليهود تنص على اعتبارهم جزء لا يتجزأ من رعايا الدولة الإسلامية ، لهم حقوق وعليهم واجبات ، ألا وهي مشاركة المسلمين في دفع أي اعتداء يقع على المدينة ، وألا يتحالفوا مع عدو للمسلمين ضدهم .
من نتائج الهجرة وثمارها المرجوة ، بناء مسجد قباء ؛ ليجتمع فيه المسلمون لدراسة تعاليم دينهم الإسلامي السمحة ، حيث كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله هو بناء الجانب العقائدي عند المسلمين والصحابة ، وأن يعتقدوا اعتقادا جازما في البعث والحساب والثواب والعقاب .
أما عن الدروس المستفادة من الهجرة النبوية ، الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله سبحانه ، والأمل والثقة في نصر الله . من الدروس كذلك حرص رسول الله على الصحبة ، وقد سطر عليه الصلاة والسلام قاعدة إسلامية هامة ، ألا وهي : “الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد” .
من الدروس أيضا ، كيف كان رسول الله القائد والقدوة ، فالقائد العظيم يعيش معاناة شعبه بكل ما فيها من تضحيات ، ويهاجر كما يهاجرون ، وقد كان من الممكن أن ينقله الله تعالى بالبراق الذي نقله بسرعة البرق من مكة إلى بيت المقدس ، ولكنه الطريق العملي لبناء وتأسيس الأمة الإسلامية الرشيدة
لقد تعلم المسلمون الأخلاق الحميدة بجانب العقيدة الراسخة ، فقد تهذبت نفوسهم وسمت أرواحهم إلى حيث تقدر الحق لذاته ، وترتفع به فوق منافع الحياة ، وترى في تأييده والدعوة إليه ما يحقر من شأن الدنيا وعرضاتها ومتاعها الزائل ، فارتقوا بأرواحهم عن قيم الأرض إلى قيم السماء وأخلاق السماء .